الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام
وإذا احتمل ذلك فلا يخصّص الآية.ويبعد هذا أنّ الحديث ورد في سياق سؤال، فقد ورد عن أبي سعيد، أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إنّ ذكاته ذكاة أمّه».وقد اختلف في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود، فذهب الجمهور إلى تحريمه، واستدلوا بالآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، وبما روي عن جابر، قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، أتاه أصحاب الصليب- وهو الودك الذي يستخرج من العظم- الذين يجمعون الأوداك، فقالوا: يا رسول الله، إنّا نجمع هذه الأوداك، وهي من الميتة، وعكرها إنما هي للأدم والسفن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قاتل الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها».فنهاهم عن ذلك، وهذا يفيد أن تحريم الله إياها على الإطلاق يفيد تحريم بيعها.وقد ذهب عطاء إلى أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، ولعل حجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل، بدليل سابقها، وأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر، فوجب أن يرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل.وأما الدم فقد ورد هنا مطلقا، وورد في سورة الأنعام [145] مقيّدا بالمسفوح وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرّموا منه إلا ما كان مسفوحا، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لولا أن الله قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لتتبّع الناس ما في العروق.وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى تخصيص الدم المحرم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأحلت لنا ميتتان ودمان».وذكر الكبد والطحال. والحق ما ذهب إليه مالك من أنه لا تخصيص لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما بالعيان والعرف.وأما الخنزير فقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه، لا شحمه، لأنّ الله قال: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وقال الجمهور: إنّ شحمه حرام أيضا، وهو الصحيح، لأن اللحم يشمل الشحم.فأما ما أهلّ به لغير الله. فقد نقل ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا فيه. فمنهم من قال: ما ذبح لغير الله. ونقله عن قتادة ومجاهد وابن عباس، ومنهم من قال: ما ذكر عليه غير اسم الله، ونقله عن الربيع وابن زيد.وفيه خلاف آخر وهو: أهذا يشمل ذبائح النصارى التي ذكروا عليها اسم المسيح فتكون محرمة، أم لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟بالأول قال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي، ومالك، ونقل عنه الكراهة.وبالثاني قال عطاء، ومكحول، والحسن والشعبي، وسعيد بن المسيّب، وأشهب من المالكية.وسبب اختلافهم: أنه وردت هذه الآية، ووردت الآية: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وكلاهما يصح أن تخصّص الأخرى، فيصح أن يكون المعنى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ما لم يذكر اسم غير الله عليه، بدليل: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ويصحّ أن يقال: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب. بدليل قوله: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ}. فمن ذهب إلى الأول حرّم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح، ومن ذهب إلى الثاني أجازها، ويمكن أن يرجّح الثاني بأن الآية نزلت في تحريم ما كان تذبحه العرب لأوثانها، وتكون في معنى قوله: {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر، وخص هنا بطالب الشر.العادي: المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز، وقد اختلف بالمراد بالباغي والعادي هنا: فذهب مجاهد وابن جبير إلى أن الباغي هنا: الخارج على الإمام، المفارق للجماعة. والعادي: قاطع السبيل. وقال قتادة والحسن وعكرمة: إنّ الباغي: آكل الميتة فوق الحاجة، والعادي: آكلها مع وجود غيرها. فعلى القول الأول: لا يجوز للخارج على الإمام ولا لقاطع السبيل إن اضطرا أن يأكلا من الميتة. ولكن يعترض على ذلك بأن بغي الباغي وعدوانه لا يبيحان له قتل نفسه بترك أكل المحرم عند الاضطرار.وقد اختلفوا في المضطر، أيأكل من الميتة حتى يشبع. أم يأكل على قدر سد الرمق؟ذهب مالك إلى الأول، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة. ومقدار الضرورة من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وهو حينئذ لا يحمل قوله تعالى: {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} على أن المراد غير باغ في الأكل، ولا متعد حد الضرورة، بل يحمله على البغي والعدوان على الإمام.وذهب غيره إلى الثاني، لأنّ الإباحة ضرورة، فتقدر بقدر الضرورة.والحكمة في تحريم ما ذكر في الآية: أما الميتة فلاستقذارها، ولما فيها من ضرر، لأنها إمّا أن تكون قد ماتت لمرض قد أفسد تركيبها. وجعلها لا تصلح للبقاء.وإما لسبب طارئ.فأما الأولى: فقد خبث لحمها. وتلوث بجراثيم المرض، فيخاف من عدواها ونقل مرضها إلى آكليها.وأما الثانية: فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارّة في جسمها.وأمّا الدم المسفوح، فلقذارته وضرره أيضا.وأما لحم الخنزير، فلأن غذاءه من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك ولأن فيه ضررا، فقد استكشف الأطباء أنّ لحم الخنزير يحمل جراثيم شديدة الفتك، ويظهر أيضا أن المتغذي من لحم الخنزير قد يكتسب من طباع ما يأكله، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة.وأما ما أهل به لغير الله فتحريمه لحكمة مرجعها إلى صيانة الدين والتوحيد.
|